المرافعة الاخيرة للسيد انا ( سهيل اليماني)
يجلس في قفص الاتهام كعلامة استفهام دون سؤال ..
يتأمل القاضي ملامحه الهادئة التي رسمت الشمس تفاصيلها ، ثم يتنفس بعمق ويسأل :
هل أنت أنت ؟
- نعم إنه أنا يا سيدي القاضي ..
- هل تعلم ماهي تهمتك ؟
- نعم إنها أنا يا سيدي القاضي !
- تهمتك هي معاداة الحياة ، واحتقار الجمال وازدراء الحب !
ما الذي دفعك لذلك ؟
- لأني أنا !
- ومن أنت ؟
- يا سيدي القاضي .. أنا الكثير جداً ، ولكني لاشيء
أنا المهمش على قارعة التاريخ ..
أنا المقهور المنبوذ المشرد التائه ..
أنا " اللاشيء " في عرف الدساتير !
أنا خط الحدود ..
أنا جوازات السفر ، أنا المنافي والسجون ..
أنا الوطن المتسول عند عتبات الحكام والولاة ..
انا الميت ما بين القهرين .. الاستعمار والاستبداد ..
يا سيدي القاضي ..
أنا المقتول في دير ياسين ..
المسحول في صبرا وشاتيلا ..
أنا المدفون تحت الأنقاض في جينين ..
أنا الذي أتنفس عبر الأنفاق في غزة ..
أنا الدرة يقتلني العدو ..
وحمزة يقتلني بني وطني ..
أنا االمطارد في تورا بورا ..
المُغتصب في غوانتانامو ..
المهان في " ابو غريب " ..
أنا الغريب في الشيشان والبوسنة وكوسوفا ..
.
.
أنا حطب الحروب حين يتسلى الحكام ..
أموت في اليمن وفي الكويت وفي بغداد وفي الجزائر والسودان وسوريا ولبنان ..
ويبتلعني المحيط في طريق الهروب ..
يسجنني الوطن .. وتنفيني المنافي !
أنا الـ يتجاهلني التاريخ ..
والـ تنفيني الجغرافيا !
يا سيدي القاضي ..
حدثني والدي .. عن أبيه عن جده عن الحروب ، وعن الناس الذين لا أسماء لهم ..
قال لي أن والده حدثه عن " النكبة " ..
وعن رسومات في كراسة سايس بيكو ..
عن الخيانات وعن البيع بلا ثمن ..
وأنا أقص على ولدي قصص والدي عن " النكسة " ..
وعن الراقصات في الجبهة ..
وعن العهر في بلاط الحكم ..
.
.
أنا الكلام الذي لم يقل ..
والأفعال التي لم ترتكب ..
أنا الأرقام في نشرات الأخبار ..
أنا الذي لا اسم لي ، ولا عنوان ..
أنا ساكن العشش فوق بحيرات النفط ..
أنا السلعة البائرة في دواوين الحكم ..
واللفظة الزائدة في دواوين الشعر ..
أنا الحرية تبنى من أجلها السجون ..
وأنا المريض تُرتكب من أجله الأخطاء الطبية
أنا حنجرة " قاشوش " يقتلعها الخوف من الكلام ..
وريشة ناجي العلي يكسرها الخوف من الحقيقة ..
أنا الممنوع من الكلام ..
والمزدرى من الأحلام ..
يا سيدي القاضي :
والأحلام بالأحلام تموت ..
كنت أحلم أن أكون فاتحاً عظيماً ..
كانت تتراءى لي القدس في أحلامي ..
كبرت قليلا .. وصغرت صورة القدس في أحلامي ..
أصبحت أحلم بمنزل ، وتغيرت صورة الأقصى في حلمي إلى بيت صغير ..
وكبرت قليلا ..
وأصبح حلمي أن أكون إنساناً .. ليس إلا
لم يعد هنالك صور في أحلامي لأي شيء ..
أنا الآن يا سيدي القاضي ..
أحلم كما تحلم قطط الشوارع ، والكلاب التائهة ..
أحلم بما يسد رمقي ..
أحلم بالخبز فقط .. وألا يسمعني أحد وأنا أحلم !
يا سيدي القاضي ..
مذ لامست قدماي هذه الأرض ..
لم يسكت صوت الرصاص .. ذاهبا في الاتجاه الخاطيء يبحث عن رأسي !
وكذلك قال أبي عن نفسه وعن أبيه !
الذين سرقوا الحياة يا سيدي القاضي
يحدثونني في منابرهم عن النار .. وعن العذاب ..
وأني خُلقت لكي أخاف ..
وأنا أفعل ذلك ..
أخاف من الكلام ..ومن الصمت ..
أخاف من الوطن ..ومن المنفى ..
وأخاف من الحرية ..ومن السجن ..
أخاف من الحياة .. ويرعبني الموت الذي يأتي قبل الحياة !
.
.
الحياة التي تتهمني بكراهيتها لم تمنحني فرصة للحياة ..
أنا لم أعاد الحياة .. ولكنها هي من نصبت لي المشانق ..
أنا لم أزدرِ الحب .. ولكن الكراهية هي من يحتويني ..
أنا لم أحتقر الجمال .. فأنا لا أعرفه !
.
.
ثم سكت ..
.
.
كانت التهمة أثبت من أن تُنفى ..
وكانت عقوبته المؤبدة ..
أن يكتب الأشعار ويمدح الحياة ..
ويُغني للجمال والحب حتى يموت !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
زروني كل بوست مرة حرام تنسوني بالمرة ...